الاثنين، 11 فبراير 2013

الآثار الباقية عن القرون الخالية كما وصفها الرحالة العبدريّ


الآثار الباقية عن القرون الخالية
كما وصفها الرحالة العبدريّ
مجلة تراث الشعب التي تصدر عن وزارة الثقافة :،العدد(4)1990م.

     العبدريّ هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن مسعود العبدريّ، ويبدو من لقبه العبدريّ بأن أصله عربيّ قرشيّ إذ يعود إلى عبد الدار بن قصي بن كلاب(1)، لقد استقرّ أجداده الأوائل في منطقة حاحة وهي قبائل كانت تحيط مدينة الصويرة المغربية التي تقع على ساحل المحيط الأطلسي. يعتقد بعض العلماء بأن العبدريّ يعود في أصله إلى مدينة بلنسية بالأندلس. وأوّل من أشار إلى ذلك المستشرق الأسباني "بونس بويكس" وقد تابعه الكثير من العلماء والمؤرخين وعلى رأسهم "برو كلمان" وجرجي زيدان وغيرهم كثيرون. ولكن هذا خطأ وقع فيه هؤلاء العلماء، والصحيح أن العبدريّ كان من بلاد حاحة المغربية كما يصرّح العبدريّ نفسه في العديد من المواضع من رحلته(2).

     لقد كان خروج العبدريّ من مسقط رأسه حاحة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وستمائة، الموافق العاشر من شهر الكانون (ديسمبر) 1289م. وقد بدأ تسجيل أخبار رحلته من مدينة تلمسان بالجزائر. وكان الباعث الرّئيسي لهذه الرحلة هو تأدية فريضة الحج، ولكن أثناء سير الرحلة كان الرحالة كثير الاهتمام بوصف مراحل الطريق والمناظر الطبيعية التي تصادفه والمدن التي يحل بها بما فيها من آثار وأحوال اقتصادية واجتماعية.
     تعتبر رحلة العبدريّ من أشهر كتب الرّحلات المغربية وهي قل ما نجد لها مثيلاً في عصره وفي العصور اللاّحقة له. ولقد وقع إقبال شديد على هذه الرحلة لدرجة أن عدد المخطوطات التي وصلت إلينا منها والموجودة بالخزانات العامة والخاصة يفوق العشرين نسخة(3). لم ينتبه لقيمة هذه الرحلة الرحالة العرب الذين نقلوا عنها الكثير من المعلومات ولكن علماء الاستشراق أيضاً تنبهوا لها منذ أكثر من قرن فنقلوا عنها الكثير من المعلومات التي استغلت في دراساتهم وأبحاثهم حول المنطقة العربية. وقد ترجموا فصولاً منها إلى لغاتهم. وأوّل من أشار إلى أهمية هذه الرحلة المستشرق الفرنسي "فانسان" في مقاله الذي نشر في الجريدة الآسيوية عام 1845م(1). أيضاً نشر المستشرق الفرنسي "شيربونو" مقالاً آخر عنها بالجريدة الآسيوية كذلك عام 1854م، بالإضافة إلى هذا، قام هذا المستشرق بترجمة بعض الفصول من هذه الرحلة إلى اللّغة الفرنسية. لقد كان "شيربونو" شديد الإعجاب بالعبدريّ وهو يعتبر كتابه من الكتب المفيدة والممتعة في نفس الوقت ولم تكن تلك الفائدة والمتعة بسبب صحة تحقيقاته الجغرافية فحسب، بل أيضاً بسبب التفاصيل الدقيقة عن الآثار القديمة، وبسبب دراسته عن العادات والتقاليد، وبسبب المعلومات التي قدّمها لنا عن معظم علماء المسلمين خلال القرن السابع الهجري(2).
     لقد أسهم الرحالة العبدريّ إسهاماً كبيراً بتقديم معلومات مفيدة عن الآثار القديمة التي كانت تنتشر في معظم المدن العربية. ومن خلال رحلته عرفنا أنه كان يحرص كل الحرص على التوقف عند تلك الآثار والدخول لمخابئها كأنه عالم من علماء الآثار، وكان لا ينقصه سوى التنقيب عن تلك الكنوز المدفونة تحت الأرض ليتعرّف عن خفاياها كما يفعل رجال الآثار في العصر الحديث، فنراه يصف قناطر المياه الرومانية بمدينة تونس والمسرح الدائري بالجم قرب سوسة بالقطر التونسي، ثم يصف قوس ماركوس أوريليوس ولوكيوس فيروس بمدينة طرابلس، ويصف أيضاً أطلال مدينة لبدة، والمقابر الإغريقية المنحوتة في الصخر بالجبل الأخضر. وأخيراً يصف منارة الإسكندرية وأهرام مصر بالجيزة.
     سنتناول في البداية وصف العبدريّ لهذه المعالم الأثرية، ثم نعطي نبذة مختصرة عن الأسباب ودوافع تشييدها، وأخيراً نقدّم بعض المعلومات عن الوضع الحالي لهذه الآثار وما طرأ عليها من صيانة لتصبح قريبة من وضعها القديم.
1- قناطر المياه الرومانية بتونس:
     إن أوّل المعالم الأثريّة الهامة التي وضعها العبدريّ في رحلته كانت قناطر المياه الرومانية التي كانت تجلب المياه من منطقة زغوان إلى مدينة قرطاجة بتونس، يقول العبدريّ في وصف هذه المعالم الأثريّة "وأما السّاقية المذكورة فهي من جملة غرائب الدنيا وهي قديمة من عمل الروم مجلوبة من جبال بجنوب تونس على مسيرة يومين أو نحوها في أوعار وأودية منقطعة وجبال وآكام فإذا انتهوا بها إلى جبل أو تل خرقوه وسربوا الماء فيه، وإذا انتهوا إلى واد أو وهد بنوه قناطر بعضها فوق بعض حتى يستوي مع مجرى الساّقية بصخر منحوت أتقن ما يكون من البناء وأغربه وأوثقه حتى يتسرب الماء منها في مستوى معتدل، واتصلت هذه الساقية بهذا العمل حتى دارت من وراء تونس إلى الغرب وانتهت إلى مدينة قرطاجة وبينها وبين تونس إثنا عشر ميلاً وهي من أعجب مدن الأرض وأغربها فيما يحكى عنها من فرط الاعتناء وغرابة الصنعة وحسبك أن هذه الساقية من جملة الاعتناء بها.. ". "والقناطر من تونس إليها معطلة وهذه القنطرة تعرف عندهم بالحنايا وهي مما يقصر الوصف عنه لفرط إتقانها وغرابتها ويذكر أن الرّوم أقاموا في تدبيرها والنظر في وضعها أربعمائة سنة وهذا بعيد وأما أبو عبيد البكري فحكى أن عملها فرغ حتى استوى فيها جرى الماء في أربعين سنة"(1).
     كانت قناطر توصيل المياه الرّومانية أعظم الإنجازات المعمارية في العصور القديمة. وقد كان الرومان ينفقون الأموال الباهظة من أجل بنائها لتوصيل المياه إلى عواصم مستعمراتهم. ولا تزال باقية حتى اليوم بقايا لما يزيد عن 200قنطرة من قناطر المياه متناثرة في أنحاء العالم القديم. لقد بنيت قنطرة لتوصيل المياه في العصر الروماني عام 312 قبل الميلاد، وقد بناها الرقيب أبيوس كلاوديوس وقد سميت مياه أبيوس نسبة إليه.
     وقد كان المنبع الذي تستمد منه قناطر توصيل المياه ماءها يرتفع دائماً عن مستوى المدينة التي تنقل إليها المياه. وطبقاً لقوانين الجاذبية فإن المياه تنحدر من النبع إلى المدينة عبر قنوات أعدت لهذا الغرض فوق طبقات من القناطر المبنية من الحجارة أو الكتل الصخرية. أمّا عن حجم القنوات فإن اتساعها يتراوح ما بين 45 و120 سنتمتراً حسب الحاجة، وقد كانت تلك القنوات تبطن بطبقة سميكة من الملاط، أمّا عن أشكالها فالبعض منها مثلث الشكل، وبعضها مربّع، والبعض الآخر متعدد الأضلاع.
     لقد ذكر العبدريّ أن هذه القناطر تسمّى عند سكان تونس بإسم الحنايا. ونلاحظ أنه مازالت إلى اليوم تسمّى بهذا الإسم. وقد كانت هذه القناطر تجلب الماء من عين جارية بجبل زغوان على بعد 90 كيلومتراً. وقبل أن تصل المياه إلى مدينة قرطاجة كانت تجتاز أراضي تتخللها الهضاب والوديان.
2- المسرح الدائري بالجم:
     يصف العبدريّ المسرح الدائري بالجم بأنه قصر الكاهنة ويقول أنه لم ير أعجب ولا أغرب منه لدرجة أن هذا المبنى لا يمكن تصوّره بالوصف ولا يمكن تصوره تصوّراً تاماً إلا بالمشاهدة، يقول العبدريّ: "وعلى الطريق التي سلكناها قصر الجم وهو قصر الكاهنة وما وقع بصري في كل ما رأيت على بنية أعجب ولا أغرب منه وهو مما لا يمكن تصوّره بالوصف ولا غني في تصوّره عن المشاهدة لغرابته ومختصر وصفه أنه قصر مستدير متّسع عل جدّاً من صخور منحوتة كبار محكمة الوضع والرصف حتى كأنه حجر واحد وقد فتحت في أعلاه أبواب مصفوفة محيطة به وعلى تلك الأبواب أبواب أخرى مثلها دائرة بالقصر أيضاً، ويظهر ما فوق الأبواب من بعد كأنه قصر واقف في الهوى وأظن تلك الأبواب لمكان اختراق الرياح احتياطاً على القصر من عادياتها لإفراط علوّه ويمكن أن تكون لغير ذلك وبناء داخل القصر أعجب فإنه لو جعل دوراً واحداً لم يكن فيه كبير منتفع وإن اتسع في الساحة على وضع واحد ضاقت وحجبت عنها الشمس فجعل البناء فيه مدرجاً كلما طلع نقص منه دور حتى ارتفع البناء إلى حد لا يحجب فيه بعضه الشمس على البعض حتى يضر بها إذا لم يبق من الساحة غير مبنى إلاّ دائرة ضيّقة وهذا القدر هو الذي يمكن إثباته في صفة هذا القصر وهو من جملة المباني الغريبة التي لا تتصوّر تصوّراً تامّاً إلاّ بالمشاهدة وليس في داخله عمارة معتبرة ولكن العمارة خارجاً عنه"(1).
     هذا القصر الذي يصفه العبدريّ هو أحد المسارح الدائريّة المهمّة المنتشرة بمنطقة شمال أفريقيا، ومن المعروف أن هذه المسارح الدّائريّة كانت تزدان بها معظم المدن الكبرى في العصر الرّوماني. وخلال الهيمنة الرّومانيّة على منطقة المدن الثّلاث (لبدة وصبراتة وأويا (طرابلس))، تم إنشاء مسرحين دائريّين أحدهما في لبدة الكبرى والآخر في صبراتة.
     كانت المسارح الدّائرية تستخدم لعروض المصارعين من الأسرى الأجانب والمحكوم عليهم بالإعدام والحيوانات المتوحّشة والتي يمكن حتى اليوم رؤية عرائنها وممرّاتها السّفلية تحت مدرّجات تلك المسارح ومن هنا نعلم أنّ تلك المسارح الدّائرية كانت موضعاً لأفظع أنواع الألعاب المنطوية على القتل وسفك الدّماء. ومن المعروف أن الرّومان كانوا يعتبرون هذه المشاهد المرعبة نوعاً من أنواع التسلية.
     تتكوّن الواجهة الرّئيسيّة للمسرح الدّائري بالجسم في الوقت الحاضر من ثلاثة طوابق تحتوي على 64 قوساً حيث يمكن مشاهدتها على بعد عدّة كيلومترات. أمّا حلبة المصارعة فهي مازالت في حالة جيّدة، حيث توجد تحتها حجرات ضيقة وممرّات متشعبة تستعمل لحجز الحيوانات المتوحشة (لوضع جثث الضحايا من المصارعين).
3- قوس ماركوس أوريليوس بمدينة طرابلس:
     عندما حل العبدريّ بمدينة طرابلس لم يعجبه في المدينة سوى بعض المباني والتي كان على رأسها قوس ماركوس أوريليوس ولوكيوس فيروس. يقول العبدريّ في وصف هذا القوس "ولم أر بطرابلس أثر عناية سوى ما تقدّم ذكره إلاّ قبّة باب البحر من بناء الأوائل، وهي في غاية الإتقان، ونهاية الأحكام مبنيّة من صخور منحوتة في نهاية العظم منقوشة بأحسن النقش، مرصوفة بأعجب الرّصف، متماثلة المقدار علويها وسفليها، ولا ملاط بين الصخور من طين ولا غيره، ومن العجب ترتيب تلك الصخور ورصفها في الأساس فضلاً عن رفعها إلى السقف ورصفها هناك مع إفراط عظمها، وفي مقعد القبّة صخرة مستديرة، منقوشة، يحار الناظر في حسن وضعها، وعلى القبّة قبّة أخرى عالية ومبان مرتفعة، ورأيت للقبّة السفلى باباً مسدوداً وعليه من خارجه صورة أسدين قد اكتنفاه مصورين من تلك الصخور بأبدع صنعة وأغربها، وهما متقابلان على الباب، وفي كلّ واحد منهما صورة لجام قد أمسك بعناية شخص واقفاً وراءه، وقد منعه به أشدّ المنع ولعلّ ذلك لمعنى تعطّل وجهل سرّه واللّه أعلم"(1).
     إن القبّة التي يصفها العبدريّ هنا هي قوس النصر الذي كرّس للإمبراطوريين الرّومانيين ماركوس أوريليوس ولوكيوس فيروس بمناسبة انتصاراتهما عام 163م. ومن المعروف أن أقواس النصر كانت تبنى على الطّرق الرّئيسيّة للمدن أو عند تقاطع الطّرق وفي الميادين العامّة وعند مداخل المدن. والجدير بالذّكر أنّ أولى أقواس النصر شيّدت تكريماً للإمبراطور أغسطس بمناسبة انتصاره على مارك أنطونيوس عام 30 ق.م. ومنذ ذلك التاريخ، توالى تدشين أقواس النّصر في معظم المدن الكبرى التي كانت تحت الهيمنة الرّومانية". وقلّما نجد مدينة لا يوجد بها قوس نصر أو أكثر.
4- وصف آثار مدينة لبدة:
     عند مرور العبدريّ بأطلال مدينة لبدة استرعى انتباهه كثرة المباني المنهارة والأعمدة الكثيرة التي تزخر بها تلك المدينة. ولقد وصف هذه المدينة وصفاً مختصراً لكنّه بليغ شامل "هناك مدينة لبدة فيها آثار قديمة وبنيان عجيب، وفيها من أساطين الرّخام وألواحه ما يقصر عنه الوصف، وفيها صورة امرأة من الرّخام إزاء الطريق، ولا شكّ أن البلد كانت دار مملكة وهي الآن متهدّمة"(2).
     تعتبر مدينة لبدة من المدن التاريخية الكبرى من حيث عظمة آثارها الباقية. ومن المرجح أن تأسيسها كمحطة تجارية كان في مطلع الألف الأول قبل الميلاد على يد الكنعانيين. ومنذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد أصبحت إحدى المدن المهمّة التي تتبع إداريّاً الإمبراطورية القرطاجيّة. ومنذ عام 146 قبل الميلاد بدأت السيطرة الرومانيّة على المدينة، وذلك بعد القضاء على مدينة قرطاجة وإزالتها من الوجود على يد الغزاة الرّومان. في عام 46 قبل الميلاد عقب انتصار يوليوس قيصر على منافسيه الرّومان، دخلت مدينة لبدة تحت الحكم المباشر للرّومان، ولقد تميّز عهد الإمبراطور الليبي سبتميوس سيفرس (القرن الثالث الميلادي) في حياة مدينة لبدة، بأنّه كان عهد ازدهار وتقدّم في جميع الميادين. فقد أنشأ فيها الكثير من المآثر الضّخمة التي لم تكن تحلم بها لبدة في يوم من الأيام.
     ومدينة لبدة مازالت تحتفظ حتى الآن بالعديد من المباني العامة كالمسارح، والحمامات، والمعابد، ودور العدالة، وأقواس النصر، بالإضافة إلى انتشار النافورات والتماثيل في معظم الميادين والشوارع الكبرى.
5- المقابر الإغريقية المنحوتة في الصّخر بالجبل الأخضر:
     عندما حلّ العبدريّ بمنطقة الجبل الأخضر كان أوّل ما استرعى انتباهه المقابر الإغريقيّة المنحوتة في الصخر. يقول العبدريّ في وصف هذه المقابر "ما رأيت في أرض برقة مع اتساعها ما يحلى بعين الرامق وتعلق به مقة الوامق سوى مسكن رأيته في خلاء من الأرض بين الرّجل المشقوق وقصر الصعاقبة في حجر صلد باصل جبل على صورة دار رائعة وعلى بابها صفة ولها بناء مليح نقر فيه عن يمين وشمال صور بيوت لم يتم عملها وإذا دخلت من باب الدّار ألقيت قبّة مليحة متسعة مرتفعة السمك مربّعة منقوشة بأبدع النقش وفيها مصاطب قد دارت بها حتى اتصلت بالباب وقبالة الباب باب آخر يطلع منه على درج إلى بيت آخر كبير وجميع ذلك منحوت في حجر صلد يفوق الوصف إتقانه فسبحان من يرث الأرض ومن عليها وإليه المرجع والمصير وقد رأيت نحو هذا في موضع آخر من أرض برقة"(1).
     وعند رجوع العبدري إلى المغرب الأقصى بعد أدائه لفريضة الحج وصف مجموعة أخرى من المقابر المنحوتة حيث يقول "ورأيت ما بين جرسون ومراوة آكاماً غليظة دائرة بديار منحوتة منها في حجر صلد من أبدع العمل وأغرب الإتقان عجيبة محكمة جدّاً ودخلت منها واحدة بإزاء الطريق فوجدتها على نعت دار متقنة وعن يمين مدخلها حجرة عجيبة للطبخ وعن يساره حجرة أخرى للرحض والتطهير وفي مقابلة الداخل بيت كبير مليح جدّاً منقوش على أحسن صفة تكون عليها البيوت المبنيّة وتلك الآكام كلّها منحوتة دياراً على تلك الصفة"(2).
     إن هذه المنازل التي يصفها العبدريّ لم تكن منازل بل هي مقابر تنتشر في معظم المدن الخمس التي أنشأها المستعمرون الإغريق في منطقة الجبل الأخضر وما حوله من المناطق. وتعتبر المقابر التي اكتشفت في هذه المنطقة من أضخم أماكن الدفن في العالم القديم. أهمّ مجموعة من تلك المقابر المنحوتة في الصخر مجموعتان إحداهما تقع على الطريق القديم المؤدي إلى مدينة سوسة (أبولونيا) والأخرى تلك التي تقع على الطريق القديم المؤدي إلى مدينة بلغراي (البيضاء). وترجع هذه المقابر إلى القرن السادس قبل الميلاد. وهي تتكوّن من واجهات منحوتة في الصخر على الطرازين الدوري والأيوثي ولها مداخل بسيطة الشكل تؤدي إلى حجرات للدفن.
     لقد استغلّت معظم المقابر المنحوتة في الصخر في العصر الحديث كمساكن لسكان المنطقة مما أدّى إلى تشويهها وتلف العديد من الأجزاء المعمارية المهمة. لكن في النهاية تم نقل هؤلاء إلى مساكن حديثة وأصبحت معظم تلك المقابر في متناول الجميع لزيارتها ولدراستها.
6- منارة الإسكندريّة:
     وصل العبدريّ مدينة الإسكندرية بعد اجتيازه للصحراء الغربية. لقد قدّم لنا وصفاً ضافياً عن المدينة من حيث موقعها ومناظرها الجميلة ومبانيها العجيبة. اتجه العبدريّ بعد ذلك إلى وصف الآثار القديمة وأهم وصف قدّمه لنا عن تلك الآثار ما سطّره حول منارة الإسكندرية حيث يقول "وأما المنار فقد كتب الناس فيه وسطّروا ما فيه الكفاية وقد دخلته وتأمّلته وما وصلت إلى أعلاه إلاّ بعد جهد ولا يظهر له من خارج فرط علوّ وهو خارج المدينة على أزيد من ثلاثة أميال وعلى مرتفع بشمال البلد وقد أحاط به البحر شرقاً وغرباً حتّى تآكل حجره من الناحيتين فدعم منها ببناء وثيق اتصل إلى أعلاه وزيد دعماً بدكاكين متّسعة وثيقة وضع أساسها في البحر ورفعت عنه نحو ثلاث قامات وباب المنار مرتفع عن الأرض نحو أربع قامات وبني إليه بنيان حتى حاذاه ولم يتصل به ووضعت عليه ألواح يمشي عليها إلى الباب فإن أزيلت لم يوصل إليه وفوق الباب من داخل موضع متّسع لحراسة الباب يقعد فيه الحارس وينام فيه وفي داخل المنارة عدة بيوت رأيتها مغلقة وسعة الممر فيه ستة أشبار وفي غلظ الحائط عشرة أشبار درعته من أعلاه وسعة المنار من ركن إلى ركن مائة وأربعون شبراً وفي أعلاه جامور كبير عليه آخر دونه وفوق الأعلى قبة مليحة يطلع إليها في درج مشرعة إلى النواحي ولها محراب للصلاة"(1).
     لقد شيّدت منارة الإسكندرية زمن بطليموس الثاني "فيلا دلفوس" حوالي عام 270 قبل الميلاد. وقد قام على بنائها المهندس المعماري "سوستراتوس الكنيدي" يبلغ ارتفاعها 120 متراً على الأقل وهي تتكوّن من ثلاثة أجزاء معماريّة وهو الأسفل والمتوسط والأعلى وقد كان الجزء الأسفل مربّع الشكل، والأوسط مثمن الأضلاع، والأعلى مستديراً ولقد كانت المنارة برجاً شاهقاً يمكن رؤيتها على مسافة بعيدة سواء من البرّ أو البحر.
     لقد أثارت المنارة إعجاب الكثير من زوّار مدينة الإسكندرية لا في العصور القديمة فحسب، بل في العصور الوسيطة أيضاً، لأنها ظلّت قائمة حتى القرن الرّابع عشر الميلادي.
     لم يكن العبدريّ وحده الذي أعجب بالمنارة وقام بوصفها، بل أن الرّحالة الذين سبقوه والذين جاءوا من بعده قاموا بنفس العمل. فنرى ابن جبير (578 هـ - 1183م) وابن بطوطة (727 هـ - 1327م) كل منهما يخصص لمنارة الإسكندريّة وصفاً يليق بهذا البناء الجدير بهذه العناية.
     لقد دمّرت هذه المنارة بفعل زلزال حلّ بالمدينة في القرن الرابع عشر الميلادي. ولقد أشار الرّحالة ابن بطوطة إلى هذا التدمير قائلاً "وقصدت المنار عند عودتي إلى بلاد المغرب عام خمسين وسبعمائة فوجدته قد استولى عليه الخراب بحيث لا يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه"(2).
7- أهرام مصر:
     وصل العبدريّ مدينة القاهرة قادماً من مدينة الإسكندرية. وقد أعدّ العبدريّ صفحات كثيرة من وصف أخلاق سكان القاهرة وذكر بما بهذه المدينة من المشاهد والمزارات. وتحدّث حديثاً طويلاً عن الأهرام كأنه أحد المتخصصين في مجال الآثار حيث يقول "وأمّا أهرامها وبرابيها فمبان عجيبة في غاية الغرابة ومتضمّنة من الحكمة وغرائب العلوم ما صار أعجوبة على وجه الدّهر وبين الناس تنازع في أوّل من بناها وفي أيّ شيء قصد بها ولهم فيها خوض كثير لا حاجة بنا إليه"(1). ولم يقف العبدريّ عند هذا بل يصف سبب بناء الأهرام ويتحدّث عن بعض الحقائق التاريخية التي حدثت قبله بأكثر من ثلاثة آلاف سنة. بعد ذلك يتحدّث عن طريقة بناء هذه الأهرام فيقول "والأهرام مبان من حجارة صارت لأحكامها كالحجر الواحد في غاية العلوّ متسعة الأسفل مستديرة الشكل فكلّما طلعت انخرطت حتى صار أعلاها حادّاً على شكل المخروط وليس لها باب ولا مدخل ولا يعلم كيف بنيت وقد ذكر البكري في المسالك والممالك وذكره المسعودي ومن كتابه نقله البكري أن أحمد بن طولون صاحب مصر استحضر من أرض الصعيد شيخاً له مائة وثلاثون سنة موصوفاً بالعلم والحكمة فسأله عنها فقال أنّها بنيت لحفظ جثّة(2) الملوك فقال كيف بنيت بتلك الحجارة العظيمة ومن أين يصعد إليها فقال إنهم كانوا يبنونها على مراق أبرزوها من البنيان فإذا فرغوا نحتوها"(3).
     يتجلّى لنا العبدريّ من خلال وصفه للأهرام عالماً كبيراً متضلّعاً في مجال الآثار والتاريخ فنراه يرجع للكتب المؤلّفة في هذا المجال. فنراه ينقل ما يتعلّق بتاريخ مصر عن كتاب طبقات الأمم لأبي القاسم صاعد الأندلسي، ونراه يرجع في هذا المجال إلى آراء سابقيه من الرحالة والعلماء أمثال البكري والمسعودي.
     ومن المعروف أن سبب بناء الأهرام في منطقة وادي النيل يعود إلى أن سكان هذه المنطقة في تلك العصور الموغلة في القدم كانوا يعتقدون بأن الموت ليس سوى مرحلة على طريق الحياة الثانية، ويعتقدون بأن الرّوح لدى الميّت تستطيع أن تعيد الحياة إلى الجسم شرط ألاّ يضمحلّ، وإلاّ كان مصير نفس المتوفّى التشرّد والوحدة على الأرض(4). وتجنّباً لذلك المصير كان المصريّون يحنطون جثث موتاهم ويبنون لهم مدافن فخمة مجهولة الأبواب حتى لا يمكن اقتحامها. لقد بلغ فن تشييد الأهرام القمّة في الضخامة والرّوعة خلال فترة الدولة القديمة، وذلك بتشييد أهرامات خوفو وخفرع ومنقرع بمنطقة الجيزة، لكن من أحسن هذه الأهرامات الثلاثة هرم خفرع ومجموعة المباني المحيطة به. وترجع أهمّيّة هذا الهرم إلى التمثال الضخم المنحوت في الصخر والموجود بجانب الوادي وهو على شكل حيوان بجسم أسد ورأس آدمي ويعرف هذا التمثال باسم أبي الهول.



(1)  رحلة العبدريّ المسماة الرحلة المغربية، الرباط، 1968م، عن المقدمة.
(2)  المرجع السابق، ص 140.
(3)  رحلة العبدريّ، المقدمة.
(1)  فانسان.
(2) M. Cherbonneau, Notice et extraits du voyage d'El –Abdery aTravers l'Afrique septentrionale, au VIIeme siecle de l'Hegire. (Journal Asiatique 5e Serie Tame IV, Paris, 1854, P 176.
(1)  رحلة العبدريّ، ص 40، 41.
(1)  المرجع السابق، ص 237، 238.
(1)  رحلة العبدري، ص 82.
(2)  رحلة العبدري، ص 236.
(1)  رحلة العبدري، ص 87.
(2)  رحلة العبدري، ص 235.
(1)  رحلة العبدري، ص 91، 92.
(2)  رحلة ابن بطوطة، دار صادر، بيروت، ص 21.
(1)  رحلة العبدريّ، ص 146.
(2)  ربما يقصد جثث.
(3)  رحلة العبدري، ص 147.
(4)  الموسوعة (المجلد الثاني)، الناشر ثراد كيم، شركة مساهمة سويسرية، جنيف، 1985م، ص 230. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق